تأمُلات حول العَــــصْر
(والعصر. إن الانسان لفي خسر. إلا الذين
امنوا عملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)" - سورة العصر-
اذن فإن بنى الانسان في خُسرٍ لا محالة مع مرور الزمن!،
فإن الآية تبينها واضحة صريحة تلك الحقيقة المؤكدة بقسمٍ
من الله عزَّ وجلْ؛ إن كل بنى ادم فى خسر مستمر و ممتد الى أن يرث الله الأرض و ما
عليها و لكن هناك صنف من بني ادم مستثنون من ذلك الخسران المستمر المُتحقق، ألا و
هم : الذين آمنوا وعملوا وتواصوا ..
ولكن اذا كان ذلك الخسر
حقيقة قد أخبرنا بها الله عز و جل بعدما أقسم بالعصر، فهل هناك علاقة بين ذلك
القسم و تلك الحقيقة !؟ و ما هي حقيقة أو صورة ذلك الخٌسر الذي يلحق ببني الانسان
!؟ هل هو خسران مادي ام معنوي !؟ و كيف السبيل الي النجاة منه ؟
إن المُتأمِل في حديث الرسول الكريم محمد - صلى
الله عليه و سلم - " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
إن ذلك الحديث الشريف ما هو إلا تأكيد واضح مُبسَّط لمعنى "سورة" العصر
وإذا تأملنا في تاريخ بني
البشر عبر مختَلف العصور بدون أن نغتَر بذلك التطور المادي التكنولوجي الذي توصلت
اليه البشرية عبر القرون وما تزال تسعى في تطور مُطّرد الي أن يشاء الله، فإن ذلك
الخسر المَعِنيّ في "سورة العصر" ليس بِخُسر مادي ظاهر وإن كان له أثر
واضح في حياة البشر كما تُبَيِّن الآية الكريمة " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس..." إن ذلك الخسر مرئي ومحسوس من قبل كل ذي بصر سوي وبصيرة واليك البيان:
لقد خلق الله الزمن أُحادي
الاتجاه يسير و فقط نحو الأمام(*)، فما حدث بالفعل لا يمكن الرجوع عنه و لا العودة
اليه، فمنذ أن يولد كل انسان يولد معه خطه
الزمني إن صح التعبير عن حياة الانسان في الدنيا بأنها خط زمني يولد بمولده و
ينتهي بموته، فإذا كان الامر كذلك فلتتخيل معي أن شخصا ما ذاهب في رحلة صيد الى
غابة بديعة الجمال و هو يحبها كثيرا و هو الآن في الطريق اليها و ذلك الطريق
يستغرق ساعة واحدة بالسيارة، إذا نحن ضَيَّقنا نظرتنا في الاطار الزمني الخاص بذلك
الشخص و امعنّا النظر في الزمن و تحديدا قبل انطلاقه - في رحلته هذه الي وجهته
التي يحبها كثيرا - حتى و صوله الى تلك الغابة الجميلة؛ إن مما لا شك فيه أن الزمن
بالنسبة لصاحبنا هذا آخذ في التناقص شيئا فشيئا فتلك الساعة تأخذ في التناقص لتصبح
عدة دقائق حتى تنتهي بوصول صاحبنا هذا الى وجهته المحبوبة، و هنا يتجلى أصل المعنى
و لب القضية، هل يستطيع أحد ان يقول أنه بانتهاء تلك الساعة - و تناقصها بسرعة أو
ببطء - ان صاحبنا هذا كان يعيش في حالة من الخسر بسبب خسارته لدقائق ثمينة من ذلك
الإطار الزمني في حياته و الذي قد حددناه مسبقا، كلا لا يمكن لأحد ان يدعي ذلك
ابداً، بل عكس ذلك هو الصحيح فمع تناقص الزمن - الساعة ! - كان صاحبنا يُعد نفسه
في حالة فوز و نجاح لا حالة خسر، و كيف لا و هو مع تناقص الزمن - تلك الساعة وما
اطولها من ساعة ! - يزداد اقترابا من هدفه و وجهته المحبوبة، فهو مع ذلك النقصان
في الزمن في حالة فوز وليس خسر؛ اذا فليس كل خسران في الزمن يُعد خسرا كما تبين
لنا.
ولكن ماذا اذا تغيرت الوجهة
- بدلا من تلك الغابة المفضلة لدي صاحبنا - الى مكان مكروه لديه و لا يتمني ان يصل
اليه أبدا، قطعا إن ذلك سيغير كل شيء، فبمرور الزمن - الساعة - يكون صاحبنا في
حالة خسران محقق و كيف لا و ها هي تلك الدقائق الثمينة التي تفصله عن وجهة يكرهها
ولا يريد الوصول اليها ابدا تمر من بين يديه و ليس بيده حيلة ليوقف بها مرور الزمن
فهو ماضٍ لا محالة، ولكن الوجهة التي يصل اليها بانتهاء خطه الزمني هي و فقط التي
تحدد حالته اثناء الطريق هل هو في خسر أم في نجاح شعر بذلك او لم يشعر..
وإذا طبقنا نفس الأمر على كل
بني البشر و في اطار زمني أشمل؛ هو حياة كل انسان كاملة منذ مولده و حتى اخر
أنفاسه في هذه الحياة الدنيا، فانه بإمكاننا الان ان نفهم حقيقة الخسر المذكور في
"سورة العصر" فبموجب ايماننا بالقران نحن نعلم ان كل مولود إما شقي و
إما سعيد و ان المصير الي امران لا ثالت لهما، إما الي جنة و إما الي نار -
"فمن زحزح عن النار و ادخل الجنة فقد فاز و ما الحياة الدنيا الا متاع
الغرور" - و بمرور الساعات و الأيام و السنين في حياة الانسان فإن مصيره في
الاخرة و فقط هو الذي يحدد حالته في الدنيا من خسر او نجاح و إن بدا لنا غير ذلك
أو اختلط الأمر بسبب الغفلة و غرور الدنيا و زينتها.
فإن حالة الخسر متحققة شاء
الانسان أم أبى شعر بذلك أم لم يشعر، إن لم يسرع بالدخول في ذلك الصنف الوحيد
المُستثنى وهم " الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا
بالصبر" أسألُ الله العظيم أن يجعلنا منهم.
و لم أرى تفسيراً لسورة
العصر مثل ذلك الذي تحدث به الدكتور محمد راتب النابلسي نفع الله به وفتح عليه وجزاه خيراً كثيراً.
* إن الزمن رغم كل هذا التطور الذي وصل اليه الانسان لا يزال لغزا محيرا، ولم يستطيع الانسان اكتشاف كل اسراه أو التغيير فيه و لو مثقال ذرة ولا احسبه يفعل أبدا، فمثلا متي كانت بداية الزمن و متي هي نهايته، فإن الله عز و جل هو الأول و الآخر و ليس كمثله شيء، اذا فلا بد من بداية للزمن و نهاية. و كيف يكون الزمن في الحياة الأبدية و ما هي القيمة العددية للرقم لانهاية ! كل هذه تساؤلات لم ولا اظن ان علمنا - نحن بني البشر- قادر على الإجابة عنها و كيف ! و ما أوتينا من العلم إلا قليلا..
Comments
Post a Comment